NadorCity.Com
-
قيم الحلم والتسامح في الإسلام
محمد عيسوي/ أستاذ باحث

شهر رمضان فرصة للمسلم من أجل تجديد الإيمان والتوبة والرجوع إلى الله تعالى، والتخلق بأخلاق الإسلام التي تؤدي به إلى السعادة في الدنيا والآخرة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق". وسُئل عن أي الأعمال أفضل؟ قال: " حسن الخلق". وسُئل عن أكثر ما يُدخل الجنة؟ قال: " تقوى الله وحسن الخلق". وكان الرسول عليه الصلاة والسلام القدوة في السلوك الحسن والأخلاق الفاضلة. وقد شهد له الله عز وجل بذلك: { وإنك لعلى خلق عظيم}.
من هذه القيم التي نص عليها ديننا الحنيف، وحث المسلمين على التحلي بها والاتزام بها في حياتهم اليومية قيمة الحلم والتسامح والإحسان إلى الغير، وهي معاني سامية يترقى من خلالها المسلم في درجات الإيمان ومعارج الكمال. وهي أخلاق رفيعة تزيد المتصف بها تقديرا واحتراما، وتكون سببا في نيل رضا الله عز وجل. والنبي صلى الله عليه وسلم أُمر بمعاملة الناس بالحسنى، وإشاعة قيم الخير والإحسان بينهم. قال تعالى: { وقولوا للناس حسنا }. أي قولا حسنا، وسماه حسنا للمبالغة ، والمراد به ما فيه تخلق وإرشاد، والظاهر أن هذا الأمر من جملة الميثاق، والقول الحسن مع المؤمنين والكفار لأن موسى عليه السلام أمر بالرفق مع فرعون، وكذا الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالرفق والموعظة الحسنة.
أرسل الله عز وجل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة. وكان لشخصية الحبيب المصطفى الأثر العظيم في تربية الأجيال وإرشادهم، وإخراجهم من الضلال إلى الهدى ومن التيه إلى بر الأمان. قال تعالى:{ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} أي بعث في الناس رسولا، يعرفونه، ويعلمون صدقه وأمانته. فكان حريصا على هداية الناس وإرشادهم ودخولهم في الإسلام. شعاره في ذلك" اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". ومن شدة رأفته ورحمته بالمؤمنين؛ أعطاه الله عز وجل اسمين من أسمائه: وهما{ رؤوف رحيم}. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتصف بالحلم والصفح عن الجهل والإساءة، فلم يعرف الانتقام طريقا إلى قلبه، بل كان متسامحا وشديد الصبر على الأذى، ويتجاوز عمن أساء إليه إلا أن تنتهك حرمات الله. اشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه بعد موت عمه أبي طالب وزوجه خديجة رضي الله عنها، ذهب إلى الطائف، ودعا أهلها إلى الإسلام، لكنهم لم يستجيبوا له، وأمروه بالخروج من بلدتهم، وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم وعبيدهم، وأخذوا يسبونه، ويشتمونه، ويرمونه بالحجارة، حتى أدموا عَقبيه وقدميه صلى الله عليه وسلم، حتى اختضَب نعلاه بالدم. وكان زيد بن حارثة رضي الله عنه يقيه بنفسه، ويدافع عنه، فأصيب بشج في رأسه. حتى وصلا إلى حائط، وقد أثر في نفسه ما لاقاه، فدعا بالدعاء المشهور: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". وبينما هو كئيب حزين، إذ بجبريل عليه السلام ينزل إليه ومعه ملك الجبال. وقال: إن الله بعث إليك مَلك الجبال لتأمره بما شئتَ. ثم سلم ملك الجبال وقال: يا محمد ذلك فما شئتَ، إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين[ وهما جبلا مكة: أبو قبيس والذي يقابله]. فقال صلى الله عليه وسلم:" بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا" . وكان أهل الطائف بعد ذلك يقولون: نحن الذين نفعتنا دعوة رسول الله. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصا على هداية الناس، وتعليمهم وإرشادهم إلى الطريق المستقيم. قال الله تعالى:{هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويُزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين من الجن والإنس، رحمة للمؤمن بالهداية، وللمنافق بالأمان من القتل، وللكافر بتأخير العذاب.
قال الله تعالى: { إنا أرسلناك شاهدا ومُبشرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا}. عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت:" ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم بها لله ". وفي غزوة أحد كُسرت رُباعيته وشُج في وجهه ، وشق ذلك على أصحابه شقا شديدا، وقالوا: لو دعوت عليهم. لكنه عليه الصلاة والسلام لم يدع عليهم. بل دعا لهم بالهداية. عن أبي هريرة ، قال: قيل: يا رسول الله ادعُ على المشركين، قال: "إني لم أُبعث لعانا، وإنما بُعثتُ رحمة"
رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد دعا نوح على قومه فقال: { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا}. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا فقلد وطئ ظهرك وأدمي وجهك وكُسرت رباعيتك فأبيتَ أن تقول إلا خيرا، فقلتَ: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". قال القاضي عياض رحمه الله في كتابه "الشفا بتعريف حقوق المصطفى": انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان وحسن الخلق وكرم النفس وغاية الصبر والحلم، إذ لم يقتصر صلى الله عليه وسلم على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ، ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم، فقال: اغفر أو اهد، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: لقومي، ثم اعتذر عنهم بجهلهم، فقال: فإنهم لا يعلمون". عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن دوسا قد هلكت، عصت وأبت، فادع الله عليهم. فقال: "اللهم اهد دوسا، وائت بهم". وقال للطفيل ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم. قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، حتى نزلتُ المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن عبد الله بن أبي لما تُوفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه واستغفر له، فأعطاه قميصه، وقال:"آذني أُصلي عليه" فآذنه، فلما أراد أن يُصلي جذبه عمر، فقال: أليس الله نهاك أن تُصلي على المنافقين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا بين خَيرَتين" قال:{استغفر لهم أو لا تستغفر لهم}، فصلى عليه. فنزلت هذه الآية:{ولا تُصل على أحد منهم مات أبدا}. إن عبد الله بن سلول كان رأس المنافقين في المدينة، ومع ذلك صَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلاتُه رحمة بالميت، وأعطى قميصه لابنه ليكفنه فيه، آملا من الله أن يغفر ذنوبه، واختار ما فيه صلاح الميت وهو الاستغفار. وهذا يدل على جميل صفحه وحلمه عن المسيء.
لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحا مع صحابته وهو يقرأ سورة الفتح، فلما وصل إلى المسجد الحرام، استلم الحجر الأسود، وطاف بالبيت وهو على راحلته، ولم يكن محرما، وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده، ويردد {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}. {جاء الحق وما يُبدئ الباطل وما يُعيد}. والأصنام تتساقط على وجوهها. فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففُتحت له فدخلها، وبعد أن طهرها من الأصنام، صلى ركعتين وكبر في نواحي البيت، ووحد الله. ثم فتح الباب، وكانت قريش قد ملأت المسجد الحرام، فخطب خطبة بليغة بين فيها أحكام الإسلام، وأسقط أمور الجاهلية قال: "يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب. ثم تلا هذه الآية:{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. ثم قال: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيرا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: لا تثريب عليكم اليوم. اذهبوا فأنتم الطلقاء. ثم نزل وجلس في المسجد الحرام، ورد المفتاح إلى عثمان بن طلحة، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يومُ بر ووفاء" وقال أيضا: "خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم". ولا يزال مفتاح الكعبة في ذرية عثمان بن طلحة إلى يومنا هذا. عفا عن الجميع لوجه الله، وهم أعداءه، ولا زالت ذكرياته وأحزانه معهم ماثلة أمام عينيه ، بل عفا عن الذين أرادوا قتله أكثر من مرة، وعن الذين قاتلوه أعنف قتال، عفا عن أبي سفيان الذي كان أشد الناس عداوة له، عفا عن وحشي الذي قتل عمه حمزة في غزوة أحد وبقر بطنه، عفا عن هند بنت عتبة التي لاكت (مضغت) من كبد حمزة بين أسنانها. فاعترفوا بدعوته، وآمنوا به ، وهداهم الله إلى الطريق المستقيم، بفضل حلمه وعفوه وأخلاقه الكريمة، فما أروعها من أخلاق. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أحبكم إلي وأقربَكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا "
عيسوي محمد


---
تعليق جديد






لتصفح الموقع بنسخته الكاملة اضغط على الويب